Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لا يمكنُ لمؤلّف (العقد الاجتماعيّ) وصاحب الأفكار الثورويّة أن يكرّسَ عملاً -وإن كان روائيّاً- لأغراض تربويّة دون أن يعرِّج على مفهوم المُلكيّة والعدالة الاجتماعيّة. من هذا المنطلَق، حاول روسو أن يجنِّبَ  الطّفل ما قد يعترض سبيله من سوء استخدام المفاهيم والتّنشئة الخاطئة الّتي قد تورثه مع الزّمن حبّاً للسّيطرة.

نغم داوود

التّنشئة الفِطريَّة عندَ روسو: 'إميل'" وتأثيرُها في الفلسفة التّربويَّة"

"

في 28 يونيو 1712 ، كانَ العالَمُ على موعدٍ مع ولادة أحد أهمّ مفكّري عصر التّنوير. إن سُئلَ أيٌّ منّا: من هو جان جاك روسو؟ فسيجيبُ بكلمتين: "العقد الاجتماعيّ". لا نُنكرُ أنّ كتابَي (العقد الاجتماعيّ، 1762) و (خطاب في أصل وأسس عدم المساواة بين البشر،1755) كانا الأكثر تأثيراً في الأفكار الّتي سادت عصر التّنوير فعبرهما طرح روسو فكرة "الإنسان الوحشيّ النّبيل" وما لقيَتهُ هذه الفكرة من تحامُلٍ وانتقاداتٍ لاذعة. كما ارتبطت أفكار(العقد الاجتماعيّ) بقيام الثّورة الفرنسيّة الّتي ساعدت فلسفة روسو في تشكيل أحداثِها السّياسيّة. ولكن هناك إجابة أخرى على سؤال: من هو روسو؟. هو ابنُ جنيف الّذي توفّيت والدتُه سوزان برنار بعد 9 أيّام من ولادتِه وتركه والدُه وهو في سنِّ العاشرة فلم يكن حظُّهُ من التّربية الأُسريَّة وافراً ولكنَّه -في الوقتِ نفسِه- مؤلّفُ (إميل، 1762): الرّوايةُ التّربويّةُ الّتي أثارت جدلاً كبيراً وألهمت تربويّينَ كثر على مرّ العصور.

 

محاولات روسو التّربويّة قبل "إميل":

يُعَدُّ(مشروع لتربية السّيّد دو سانت ماري) هو أوّل أعمال روسو المتعلِّقة بتجربته التّربويّة. كتبه عام 1740 عندما تولّى منصباً صعباً كمُدرِّس في عائلة جان بودوت دو مابلي، قائد الشّرطة العامّة في منطقة ليون. انتهت هذه التّجربة بعد عامٍ واحدٍ فقط وفيها تمّ تكليفُهُ برعاية طفلَين غير مُقبلَين على الدّراسة وهما: فرانسوا بول ماري بونو دو مابلي، المسمَّى مسيو دو سانت ماري والبالغ من العمر 5 سنوات ونصف وجان أنطوان بونو دو مابلي، المسمَّى مسيو دو كونديلاك والبالغ من العُمر 4 سنوات ونصف. يؤكِّدُ هذا العمل الأوَّل المُكرَّس للصبيّ الأكبر على المهمَّة التّربويَّة والخبرة والتّعليم العمليّ.

يرجعُ تاريخ كتابة هذا المشروع إلى حوالي17ديسمبر1740 ويخاطبُ المعلّم الشّابّ فيه السّيّد دومابلي ويُطلعهُ على خطّة وهيكليّة تعليم ابنه الّتي سيتمكّن عبرها من تشكيل "قلبه وعقله وحكمته". هذا النّوع من التّعليم الّذي ورد في المشروع مختلفٌ عن الّذي ستتمّ الدّعوة إليه لاحقاً في "إميل". تمّ نشر هذه المخطوطة لأوّل مرّة في جنيف عام1782.

 

ولادة "إميل":

"إنّنا لا نعرفُ شيئاً عن الطّفولة. ولضلالِ أفكارِنا عنها نزدادُ بالمضيّ في أمرِها ضلالاً على ضلال. وأحكمُ الكتّاب يوجّهون أنفسهم إلى ما ينبغي للرّجل أن يعرفه، من غير اعتبارٍ لما يستطيعُ الطّفلُ أن يتعلّم. ذلك أنّهم ينشدون الرّجلَ دائماً في الطّفل من غير أن يراعوا ماذا يكونُ الطّفلُ فعلاً قبلَ أن يغدوَ رجلاً".

بهذه العبارات يوضِحُ روسو غرضَه من كتابة "إميل" في مقدّمة الرّواية. يرى روسو أنّ فسادَ المجتمع يحولُ دون تنشئة الأولاد وتربيتهم تربيةً صالحةً تجعلهم جديرين بصفة الإنسانيّة.

تقعُ رواية "إميل" (الشّركة العربيّة للطّباعة والنّشر في القاهرة، ترجمة الدّكتور نظمي لوقا) في 351 صفحة من القطع المتوسّط. تتميّز الرّواية بالابتعاد عن الأسلوب السّرديّ الكلاسيكيّ وإن كانت لا تحيدُ عنه في التّرتيب الزّمنيّ. فروسو يختلقُ تلميذاً وهميّاً اسمه "إميل" يستطيعُ أن يتحكّم به حسب أهوائه وبذلك فهو يجعل الكتابَ مسرحاً يحرّك فيه الشّخصيّات على مرأى من القارئ ودون إخفاء يديه القابضتين على الخيوط وهو إذ يُقحِم نفسَه بين الشّخصيّات يحوّل العمل الرّوائيّ إلى ساحة للنّقاش والأخذ والرّدّ. يحرص روسو على تنشئة إميل تنشئةً فطريّةً لا أثرَ فيها للمجتمع المدنيّ الّذي -وبحسب روسو- يُفسد كلّ شيء. الرّواية مقسَّمة إلى 5 كتب تبدأ مع ولادة إميل وتنتهي ببلوغه سنّ الرّشد مارّةً بمراحل نموّه المختلفة. يحاول روسو من خلال الكتب الخمسة تسليط الضّوء على كلّ إشكاليّات التّربية من الظّروف الصّحيّة إلى أصول التّربية الأخلاقيّة ومن كيفيّة تطوير الملكات العقليّة إلى الطّرق الواجب اتّباعُها في التّربية العاطفيّة والدينيّة وتشكيل الذّائقة الأولى ويختصّ الكتاب الخامس بأصول تنشئة المرأة وهو الجزء الّذي جرّ على روسو انتقادات من الحركات النّسويّة.

في الواقع، لم تكن الحركات النّسويّة وحدها هي الّتي انتقدت الرّواية بل إنّ البرلمان الباريسيّ أدانها وحكم بحرقها عام 1762.

 

الأطفال ومفهوم المُلكيّة:

لا يمكنُ لمؤلّف (العقد الاجتماعيّ) وصاحب الأفكار الثورويّة أن يكرّسَ عملاً -وإن كان روائيّاً- لأغراض تربويّة دون أن يعرِّج على مفهوم المُلكيّة والعدالة الاجتماعيّة. من هذا المنطلَق، حاول روسو أن يجنِّبَ  الطّفل ما قد يعترض سبيله من سوء استخدام المفاهيم والتّنشئة الخاطئة الّتي قد تورثه مع الزّمن حبّاً للسّيطرة. أراد روسو أن يبدأ منذ الطّفولة في إعدادِ جيلٍ يكونُ محلّ ثقة في تطبيق (العقد الاجتماعيّ) والقضاء على الملكيّات المطلقة وإلغائها، وهذا ما نجده واضحاً في الكتاب الأوّل من "إميل"، وفيه يقول روسو: "عندما يشكو الطّفل ويصرخ وهو يمدّ يده إلى شيء فهو يأمرذلك الشّيء بالدّنوّ منه أو يأمركَ أن تحمل الشّيء إليه.. كلّما اشتدّ صراخه يجب أن تزيد في تجاهلك إذ يجب بأيّ ثمن أن تعلّمَه منذ اللّحظة الأولى ألّا يأمرَ النّاس فما هو عليهم بمسيطر". ويتابع: "هكذا عندما يرغبُ الطّفل في شيء يراه وتريد أن تعطيه إيّاه فمن الخير أن تحمل الطّفل إلى الشّيء. ذلك أفضل من أن تحمل الشّيء إلى الطّفل فبهذه الوسيلة العمليّة سيصل الطّفل في تلك السّنّ إلى الاعتقاد بأنّ هذا هو السّبيل الوحيد للوصول إلى الأشياء". كذلك نجد إشارةً مماثلةً في الكتاب الثّاني، عندما يقولُ روسو قاصداً إميل: "اسألوه أو حدّثوه عن الحريّة وعن المُلكيّة بل وعن العُرف، وسيعرف كيف يوفي الموضوعَ حقَّهُ في حدودِ أنَّ ما له له وما ليس له فهو ليس له".

 

ماذا بعد "إميل"؟

الفلسفة التّربويّة لم تَعُد بعد "إميل" كما كانت قبلَها. إنّ تأثير هذه الرّواية طال العديد من الأعمال والآراء الّتي تلتها في القرنين الأخيرين.

 نوح ويبستر:

انشأ العالِم اللّغويّ نوح ويبستر قاموسَه وفقاً لأفكار روسو حول مراحل تطوّر الطّفل الفِكريّة. قال ويبستر إنّ الأطفال يمرّون بمراحل التّعلّم المميّزة الّتي يُتقنون فيها مهامّ معقّدة أو مجرَّدة بشكلٍ متزايدٍ. لذلك، يجبُ ألّا يحاول المعلّمون تعليم طفل يبلغ من العمر 3 سنوات كيفيّة القراءة لأنّهم لن يتمكّنوا من فعلِ ذلك حتّى الخامسة. قام ويبستر بتنظيم قاموسه وفقاً لذلك بدءاً من الحروف الأبجديّة والانتقال بشكل منتَظم من خلال الأصوات المختلفة للأحرف السّاكنة ثمّ المقاطع الصّوتيّة ثمّ الكلمات البسيطة ثمّ الكلمات الأكثر تعقيداً ثمّ الجُمَل. إنّ منهجيّة ويبستر هذه نجدُها في الكتاب الثّاني من "إميل" عندما يدعو روسو إلى معاملة الأطفال بحسب أعمارهم والحرص على تجنيبهم الإرهاق الذّهنيّ ما لم يكونوا راغبين في ذلك فإن رغبوا كان لهم مطلق الحريّة.

 ماري وولستونكرافت:

تعاطفت وولستونكرافت مع روسو في دعوته إلى تعليم الصّغار من الذّكور، لكنّها اختلفت معه في اعتقاده أنّ أهميّة تعليم البنات تنبع من جعلهنّ تابعاتٍ للرّجال منسجماتٍ معهم. رأت أنّ هذا النّوع من التّعليم يخلقُ نساءً كالدّمى أسيراتٍ لمظهرهنّ ولا يفهمن معنى الأخلاق وما ذاك إلّا لأنّ الحقيقة والفضيلة والتّعليم صفات للمرأة والرّجو وحذر روسو في روايته "إميل" قائلاً: "علّموا النّساء مثل الرّجال وكلّما تشابهوا مع جنسنا قلّت سلطتهنّ وتأثيرهنّ علينا". فتجيبه وولستونكرافت: "لا أتمنّى أن يكون للنّساء سلطة على الرّجال بل على أنفسهنّ. أعتقد أنّ وظيفة التّعليم هي تمكين الفرد من بلوغِ الفضيلة وجعله مستقلّاً". لقد برزت فكرة وولستونكرافت الرّاديكاليّة بوجوب تعليم الرّجال والنّساء معاً لتشكيل ورسم المسار التّعليميّ للمرأة ورأت أنّ رفضَ الرّجال تعليم المرأة ما هو إلّا خوفٌ من القُدرات الأنثويّة.

 إدوارد كلاباريد:

يتشارك كلاباريد مع روسو في اعتبار الاهتمامات مفهوماً مركزيّاً في التّعليم. يرى كلاباريد أنّ الطّبيعة تولّد بنفسها الاهتمامات عند الأطفال وهي أفضل من كلّ المربّين مجتمعين وبالتّالي، الطّفل في الحالة الطّبيعيّة يعرف احتياجاتِه الخاصّة والّتي يتمّ تطويرُها من خلال العمل والنّموّ لذا نجدُ أنّ اهتمامَ الطّفل يكمنُ في المقام الأوّل في اللّعب.

يوضّح كلاباريد أنّ الطّفلَ يلعبُ لأنّ من مصلحتِه اللّعب ولذلك هو مهتمّ باللّعب وهذا ما نجده عند روسو في "إميل" عندما يقول: "يحتاج الأطفال إلى أن يقفزوا ويصيحوا كلّما راق لهم ذلك وجميع حركاتهم إنّما هي في الواقع احتياجات أبدانهم وتكوينهم الّذي يريد أن يتقوّى بالنّشاط والرّياضة". باختصار، إنّ الأفراد في النّظام البيئيّ، مدفوعاً بديناميكيّة نموّهم، يشعرون بالاحتياجات الّتي توجّههم نحو هذه البيئة ويغيّرون اهتماماتهم وفقاً لذلك، حتّى نحصل في النّهاية على سلسلة معقّدة من الاهتمامات المتغيّرة وفقاً لتفاعُلهم مع محيطهم.

 يوهان بستالوتزي:

"التّجربة أو العجز هما القانون الوحيد الّذي يجب أن يشعرَ به الطّفل" كانت هذه الكلمات شعارَ روسو في تربية "إميل" ومنه استمدّ بستالوتزي نظريّته في التّعلّم. تمنّى بستالوتزي أن يتعلّم الطّلّاب من خلال نهجٍ علميٍّ. يجب أن يتمكّن الطّلّاب من الخروج وجمع المعلومات للتوصّل إلى إجابات خاصّة بهم. لا يجب إعطاء الطّفل إجابات ولكن بدلاً من ذلك، يجب أن يصل إلى الإجابة بنفسه.

أوليفييه موليني:

يبدي الباحث في علوم التّربية بجامعة جنيف أوليفييه موليني، انتقادَه لنموذج التّعليم القائم على مبدأ خزن المعارِف والاحتفاظ بها ويشيرُ إلى أنّ "برامج القرن العشرين كانت تدعو التّلاميذ لمعرفة أكبرعدد من أسماء الأنهار الرّئيسيّة في بلادهم، بينما تلاميذ الخمسينات مطالبون بمعرفة عشرة منها فقط ولكنّها معزّزة بمفاهيم من حقل الهيدروغرافيا."

هذه البيداغوجيا الحديثة القائمة على تغليب الحواسّ على الذّاكرة الصّمّاء نجدُها أيضاً في (إميل) وبالتّحديد عندما يقول روسو واصفاً تلميذه: "عقله ليس في لسانه بل في دماغه وحافظته أقلّ نموّاً من واعيته وإدراكه"

"

كاتبة سورية